كان بيتنا يقع في قلب الطبيعة المميزة كغيره من بيوت قرية “الشيخ داود”. وكانت بيوتنا مميزة حيث أعطى الله لكل منا نعمة رؤية مشهد رائع وخلاب يتكشّف يومياً خارج شبابيكنا. حفيف الأوراق الملهم، الزقزقة الشجية لأجمل العصافير التي تتراقص دائمًا في السماء الزرقاء وتجثو على أغصان الأشجار المورقة والطويلة ترافق صوت ابقارنا الحنون، وصوت الخراف البريئة، ولحظات الشروق والغروب المتكرّرة التي تحبس الأنفاس. تلك النعمة وذلك الإنسجام سحرتنا بهما الطبيعة وسط أيامنا الصاخبة والمليئة بالأشغال. لكن هذا الحضور الرائع للطبيعة لم يكن محدوداً أو محصوراً في محيطنا فقط بل كان حاضراً في كل زوايانا يأتينا من خلال الهواء الآتي من حدائقنا. “هيا نعمل، وننتج، ونعيش”، هذه الرسائل التي كانت تبعثها لنا الطبيعة على شكل حدس في قلوبنا كل يوم.
ولذلك مع كل شروق شمس، تجد كل أفراد عائلتي ينكبّون على أعمالهم الروتينيّة بسعادة وابتهاج: امي على رأسها طناجر الطبخ في طريقها الى الاسطبل لتحلب المواشي، والدي المسؤول عن حلب الأبقار المسالمة، اخي الذي يجلب لنا الماء على ظهر الحمار من نبع قريب. اما انا، فكانت حصتي من العمل ان اذهب عند الفجر الى غرفة المونة لإحضار القمح من حاويات كبيرة لاطعم الحمام والدجاج بعد ان اجمع بيضها.
علاقة حميمة كانت توحّد أهالي قريتنا المعروفة باسم “الشيخ داود” أو “الأرض”. مثلاً، كان الناس يعيشون ممّا تقدمه لهم أرضهم، وكانوا مخلصين تماماً لأراضيهم وللحفاظ على مزروعاتهم الغنية والمتنوّعة. اي شخص ينظر الى قريتنا من التلال المحيطة كان بإمكانه أن يرى مساحات شاسعة من الأراضي، والتي نعرفها بأسم “البيضا” و”الرابية” و”حاكورة البلد”. وكانت مغطاة بأشجار الزيتون والتين، موزّعة في الجلول حيث تتراقص سنابل القمح تحركها رياح الشتاء الخفية، و كانت الخضار تنمو في الصيف. إنبساط هذه الأراضي الواسعة الممتدّة إلى الأفق اللانهائي، يُعطي الناظر المحظوظ احساساً لا ينتسى بالخلود.
قرية “الشيخ داود” كانت تتألف من 4 أزقة أساسية، تمتلك كل واحد منها ينتمي الى “حمولة” معينة، أو الى نسب عائلي محدّد. الحياة في الشيخ داود كانت مبنية على اساس صلة الدم، الأزقة الجنوبية كانت لعائلة “البيتم”، والشمالية، والشرقية كانت لآل “عبد القادر” الذين وهبتهم السلطنة العثمانية أثناء حكمها لقب “البيك”. كان لكل عائلة من هؤلاء مختارًا، وهو الأكبر سناً، الذي من المفترض أن يرعى مصالح كل فرد من حمولته، والعائلة التي يمثلها. هذه السلطة الأعلى في العائلة، اي المختار، كانت في الحقيقة صلة الوصل بين العائلة والحكومة.
عادة لم يكن مسكن المختار يقع في مكان بعيد عن باقي البيوت، تحيط به مساكن أقاربه. وبالمناسبة، كل بيوت “الشيخ داود” كانت من الطين.
كان موقع بيتنا مرتبطاً بشكل وثيق بحوادث غير سارّة، كانت قد حصلت منذ وقت طويل حينها استعجل والديّ رحيلنا الضروري من المنزل؛ وذلك لان الغرفة التي خصصها جديّ لنا لم تعد قادرة على استيعابنا حيث كبرنا واصبحنا ثلاث اخوة وخمس أخوات.
لحسن الحظ لم نكن بحاجة لشراء الكثير من المواد التي سنستخدمها في البناء مثل التراب والخشب والماء!
ستة أشهر من العمل اليومي الشاق الذي كان يبدأ دائماً عند الخامسة فجراً، وينتهي عند السابعة مساءاً، أعطت ثمارها حين أصبح المنزل جاهزاً. اخوتي واخواتي، والديّ والاقارب، لم يوفر احد جهداً ساهموا جميعًا في بناء منزلنا، كل حسب قدرته.
لتنظيم انفسنا كان هناك تقسيم للعمل. مثلاً، أبي وعمي كانا مسؤولين عن استخراج التراب من البرية. اما انا وابناء عمي فكانت مهمتنا ان نرافق ابي وعمي ونملأ الأكياس بالتراب الذي راكموه، وننقلها على ظهور الحمير الى موقع البناء. اختي الصغرى مع اقاربنا من جيلها يُحضرون الماء من النبع القريب. امي وجليلة كان عليهما خلط التراب مع الماء لتحويلهما الى طوبة من الطين توضع في الشمس لتجفّ. الخطوة التالية كانت بناء جدران الطابق الأرضي، الذي كان يتألف من غرفة المونة ومطبخ وغرفة الموقد والاسطبلات،هندسة مدروسة جيداً! كما كانوا يتركون في الجدران ثغرات لتبني العصافير والسنونو أعشاشها فيها.
اما السقف فكان بحاجة إلى كميات كبيرة من الطين والماء وجذوع اشجار البلوط التي كان يتمّ تقطعها من الغابات القريبة. ما أن كانت الجزوع تُرصّ، الواحد الى جانب الآخر حتى تبدأ “المَدّة” اي توزيع الاحجار والحصى والطين فوقها والتي كانت تستقطب جهود اهالي القرية الذين كانوا يعملون بإنسجام لصنعها، وذلك لعلمهم ان نجاح جهودهم يتوقف على درجة التعاون بينهم. كأن يحضر احدهم التراب، واخر الماء، وثالث الحبل، وفي نفس الوقت شخص اخر يخلط الماء والتراب، وهكذا دواليك. عندها كانت تبدأ المرحلة التالية من العمل وهي كناية عن صبّ الخليط في دلاء تحمل الى السطح حيث يكون عدد من الرجال جاهزين لمد الطين على الخشب. بعد بناء الطابق الارضي، تُطبّق الطريقة نفسها لبناء العلية التي تحتوي على غرف النوم. عندها تتمّ المرحلة الاخيرة من البناء: خليط الطين، وطبقة من الجفصين الابيض واخرى من التبن توضع على جدران المنزل لاعطائها لون الارض، لون ارضنا السمراء.
كانت بيوتنا من الداخل تختلف عن الخارج لكن الإثنَين كانا يجسّدان حياتنا كفلاحين وأجزاء غير منقصلة عن حياتنا. غرفة المونة، حسب ما اذكر، كانت التعبير الافضل عن تلك الحياة الرغيدة. ما زلت اذكر اليوم الذي وقفت فيه امي في هذه الغرفة الفسيحة الى جانب الحائط وابتعدت عنه خطوتين لتنظر بفرح الى الجدران الثلاثة التي بنيناها، واحد من كل جهة بطول متر واحد وعرض مترين. واصبح هذا المكان صومعة لتخزين الحبوب. بنت امي على جهتيّ الغرفة ثمانية صوامع (غرف صغيرة) لتخزين الذرة والتبن والقمح. وبعد اتمام بنائها، تركت حفرة خارجية في اسفل كل منها ليكون لدينا حافة صغيرة نضع عليها جرار الزيت الفخارية التي كنا نحضرها من جنوب لبنان. كل جرة كانت تحتوي على 15 او 16 تنكة زيت، وكل بيت كان يخزّن حوالي خمس او ست جرار بما ان معظم اكلنا كان يحضر بزيت الزيتون. الى جانب جرار الزيت الكبيرة كنا نضع جرار السمن والمربى والزيتون والعسل. ومن السقف كانت تتدلى قطعة خشب او قش كبيرة نعلّق عليها البصل والثوم لحفظها لفصل الشتاء.
لم ننسى ان نبني الطابون في المنزل للخبز الاسمر. المصطبة، وهي عتبة اعلى من الارض المحيطة بها، مغطاة بأواني طينية لزراعة الزعتر والزهور البرية خلال الشتاء، و”القتايت” او العلب الصغيرة المصنوعة من الخشب أو القش التي تحيط بجدران المنزل. في اخر المصطبة كان يوجد درج حجري يقود الى العليّة التي احتوت عدة غرف. في كل غرفة كان هناك “الليوك” وهو كناية عن حُفرة على شكل كهف محفور في الجدار لوضع فراشنا واغطيتنا ومخداتنا.
ولان بيوتنا كانت مصنوعة من التراب، كانت تنمو انواع مختلفة من الزهور والورود على المصطبة وفي الساحات، بينما العشب الاخضر الذي كان يغطي سطحها في الربيع كان يجعلها تبدو كحقول من الاعشاب تطعم العصافير. وكانت لبيوتنا ايضاً ابوابًا كبيرة لدخول الحيوانات، وثغرات لتبني العصافير اعشاشها، وشبابيك صغيرة. بيوتنا كانت فعليًا مصنوعة من الارض، ومن الرابط الروحي بين محتوياتها الداخلية والطبيعة المحيطة ممّا شكّل علاقة عميقة توازي عمق العلاقة التي كانت بيننا نحن واراضي “الشيخ داوود”.
أي ثورة؟
في صباح احد ايام ايلول، استيقظت على صوت امي وهي تنادي زوجات عمي. مددتُ رأسي من العليّة لأراهن يحملن سلالهن وحقائبهن. بداية ظننت انهن ذاهبات لقطف التين، لكني رأيتهن يرافقن نساء اخريات ويتجهن نحو مزرعة “التويني”. وعندما نزلت الى الردهة لارى ما الذي يحدث، اخبرني اخي “التويني باع ارضه لليهود وذهبت النساء لقطف الخضار منها”.
كنت قد سمعت ان الحبق الذي احب قد نما بين الباذنجان في ارض “التويني”. ولأني كنت مولعةً بالحبق المغلي، لبست حذائي بسرعة وحملت سلة ولحقت بالنساء الذاهبات الى مزرعة “التويني”.
كانت ارض خصبة مملوكة للعائلة التي اعطتها اسمها. كانت غنية بالمياه والباذنجان والبندورة، والفليفة الخضراء وجميع انواع الخضار. النساء من القرى المجاورة كنّ قد ذهبن أيضًا لقطف الخضار. اتجهت امي الى مزرعة الباذنجان وزوجة عمي الى البندورة، بينما كنت مأخوذةً تماماً بالبحث عن الحبق الذي كان منتشراً بين الخضار. من وقت لاخر، كنت اسمع النساء المنغمسات كلياً في جمع الخضار، يعلقن على ما كُنَّ يجمعنه. واحدة كانت تقول: “الباذنجانة هذه سيكون طعمها كالزبدة عند قَليها “. وفي مزرعة البندورة، كانت امرأة تخبر رفيقتها كيف ستجفف البندورة وتحفظها لفصل الشتاء “لان طعم البندورة المجففة الذ من معجون البندورة في الطعام، وتجفيف البندورة اسهل من جمعها”.
واضافت: “بعد ازالة رؤوس البندورة الخضراء، تغسلينها وتجففينها، تُقطّع كل واحدة منها الى اربعة اجزاء. ثم تُغمس كل قطعة في الملح وتُنشر على الشراشف في الشمس، وتُقلب بإستمرار حتى تَنشف. وبهذه الطريقة تحافظ على طعمها وتبقى جيدة خلال الشتاء”.
الخضار التي تم قطفها من مزرعة “التويني” بقيت حديث القرويين لأيام عدة. “هل تذوقت في حياتك ألذ من الباذنجان المقلي؟ أخبرت زوجة عمي حسين زوجة عمي أسعد، التي كانت من ترشيحا، كيف كانت تحضر مونتها من معجون البندورة ممّا كانت تجنيه من مزرعة “التويني” وكيف ان لون المعجون كان جميلاً جداً وطعمه لم يكن حامضاً ولا حلواً”.
بالنسبة الي، كنت انتظر بفارغ الصبر ان اكون مثل باقي النساء، يكون لديّ عائلة وبيت خاص لي في هذه الأثناء كان لديّ ما اقوم به. قطفت اوراق الحبق ثم نثرتها على الشراشف البيضاء، وتركتها لِتجف في الشمس. كان المقصود من ذلك، تجفيف الحبق ثم غليه مع الزعتر لشربه خلال الشتاء. فقد كان هذا شرابي المفضل.
بعد اشهر قليلة وجدت نفسي اشاهد من على سطح بيتنا كيف تحولت مزارع “التويني” الى “نهاريا”- المستوطنة اليهودية. اذكر اني رأيت الكثير من العمال يجتهدون ويكّدون لبناء بيوت “نهاريا”. وتُجدَر الإشارة هنا أن كيفية بناء منازلهم كانت تختلف عن بناء منازلنا. كان بعض العمال يقومون بِقطع الحطب، واخرون يُثبّتون الحديد، في حين يصبّ اخرون الاسمنت. لم يمضِ وقت طويل حتى بدأت تظهر هياكل المنازل، وفي نهاية المطاف، أُنجزت اللمسات الاخيرة عليها. شبابيك منازلهم كانت اكبر من شبابيكنا، وابوابهم كانت اصغر من ابوابنا الخشبية الكبيرة. كنت اتساءل: “كيف سيُدخلون قطعانهم من الرواق؟ كيف سيتمكنون من النوم في الصيف؟ واين سيبني السنونو عشه؟ لا يوجد ثغرات في منازلهم. وماذا لَو فتحوا شبابيكهم الكبيرة؟ سيتمكّن الجميع من رؤيتهم. كم يكون هذا مُريعاً! كنت أراقب كيف ان الوان منازل “نهاريا” كانت مختلفة عن منازلنا الطينية. الظاهر أنّ منازل قرانا المبنية من تراب حقيقي و أخشاب، كانت امتداداً طبيعياً للارض؛ في حين ان منازل “نهاريا” كانت ناصعة البياض، ومختلفة بشكل مُلفت للنظر عن الارض التي بُنيت عليها.
بعد ارض “التويني”.. سمعنا عن بيع قطع اراضٍ اخرى. باعت العائلة “الخالصة” و”الحولا”، “حسين سرحان” ابن قرية “الكابري” باع محله الشهير المعروف ب”الخرايب”، “حبيب حوا” باع “جدين”، وعائلة “سرسق” باعت “مرج بن عامر”. لكن الاخبار حول بيع هذه الاراضي لم تُقلِقنا في حينه لاننا لم نكن نعي الخطط الخفية التي كانت تستهدف سيادة فلسطين، ولا استعدادات الصهاينة للإستِلاء على فلسطين. لم يخطر ببالنا ان الهجرة اليهودية ستكفي لتمكين اليهود من بسط سيطرة كاملة على فلسطين، خصوصاً ان الصورة التي تشكلت لدينا عنهم انهم “جبناء”. طوال اليوم كنا مُنشغلين بحراثة حقولنا وحصاد ما تُنتجه اراضينا من شروق الشمس حتى غروبها، هكذا كان الروتين اليومي الذي كنّا نتّبعه. لم تكن الجرائد تصلنا ولم يكن لدينا راديو ، وبالتالي كنا نجهل تماماً الاحداث التي كانت تجري في المدن الفلسطينية. عشنا من اجل ارضنا، مقتنعين بأننا لن نُقدم على بيعها ابداً.
الا اننا اصبحنا اكثر وعياً لتبعات الهجرة اليهودية والدعم الذي تلقته من البريطانيين مع انطلاقة الشرارات الاولى لثورة 1936. حتى خلال الثورة، كانت معظم الاخبار تصلنا من خلال ما كان يتناقله القرويون الذين زاروا عكا وحيفا، او من خلال الاخبار التي كانت تنشرها اللجان الثورية. في قريتنا، مُجريات الثورة كانت تعبر عنها الاغاني التي تم تأليفها لتمجيد الحاج امين الحسيني. احدى الاغاني كانت تبدأ:
بالنسبة لنا، الثورة كانت تعني أيضًا متابعة لتطورات التي كانت تجري في القرى الاخرى وتأمين المال والمؤن الغذائية للثوار. في المرحلة الأخيرة للثورة، عِوضًا عن الاتكال على تبرعات المتعاطفين معنا، كانت لجان الثورة في مختلف القرى تفرض مبلغاً معيناً على كل واحد منا.
المواجهات مع اليهود والبريطانيين كانت غالباً تجري في البرية والوديان البعيدة. في الحقيقة، دخل البريطانيون قريتنا مرتين خلال الثورة. المرة الاولى التي حصل فيها الهجوم كان قد سبقتها اشتباكات عنيفة بين البريطانيين ومجموعة من الثوار على الشاطئ، حيث قتل عدد من البريطانيين قرب قريتنا. عقب تلك الحادثة، اغار البريطانيون وقصفوا قريتنا واجبرونا على اللجوء الى الجبال. ما زلت اذكر ذلك اليوم حين عدنا الى القرية بعد ان غادرها البريطانيون، لنجد ان مونة الشتاء قد اتلفت: سكبوا الزيت على الطحين والقمح، وخلطوا الزيتون مع المربى.
المرة الثانية التي دخل فيها البريطانيون الى قريتنا، كانت مع نهاية الثورة. حينها اغاروا على منزل عمي المختار ابو اسعد احمد اليتيم برفقة مخبرين يرتدون الاقنعة. وحدث ذلك عندما كان الثوار في منزله يطلبون منه الرسوم المتوجب علينا دفعها. وما ان علم الثوار بقدوم البريطانيين حتى فرّوا هاربين من الباب الخلفي للمنزل . لكن احد الثوار رمى مسدسه من الشباك، مُحدِثًا صوتًا قويًّا عند سقوطه على جرة. ولحسن الحظ لم يجد البريطانيون اي اثر للمسدس عندما فتشّوا في الخارج. ورغم عدم تمكّن البريطانيين من العثور على الثوار في منزل المختار، إعتقلوا هذا الأخير وسجنوه مع آخرين في بئر جاف حيث كان البريطانيون ينزلون الطعام والماء بسلال الى المساجين داخله. سجن المختار في البئر 40 يوماً، وبعدها نُقِل الى سجن عكا حيث امضى 6 اشهر. الايام الاخيرة من الثورة شهدت حدوث عمليات انتقام شخصية بشكل دمويّ. استخدم بعض الثوار اسلحتهم للتخلص من أشخاص كانوا يكنّون لهم العداء والكرهية. كانوا يتهمونهم بالخيانة والتعاون مع البريطانيين، لِيقوموا بعدها بتصفيتهم مباشرة. للأسف، هكذا تمّ قتل العديد من الشخصيات الوطنية. لكنّ مقتل د. انور الشقيري في عكا اغضب اهالي المدينة الذين اتهموا الثوار بأنهم فلاحين جاهلين، وغير حضاريين. كما كان اهالي المدينة غاضبين من الثوار الذين فرضوا على النساء إرتداء الفساتين الطويلة فيما كان معظم نساء عكا يؤثر ارتداء الثياب من دون اكمام؛ بلّ كثر من ذلك، كان الثوار يتحرشون بهؤلاء النساء ويرشون عليهن الاسيد.
لسوء الحظ لم يزعج الثوار الناس في المدن فحسب.خذ على سبيل المثال، عرس ابن المختار اسعد الذي الغي رغم اتمام كافة التجهيزات. ارسل الثوار رسالة الى المختار وهددوه بتخريب الحفل، على رغم من احتمال وارد ان تكون الرسالة قد كتبها حاقدون يكرهون المختار.
حين شارفت الثورة على نهايتها، كانت مناوشات مسلحة تقع بين الثوار من حين الى اخر، يتخللها أطلاق نيران. حدث ذلك مرتين في “الشيخ داوود”، مرة بين الثوار من زقاق؟ “فهد” وأخرى بين الثوار من زقاق؟ “عبد القادر”. فالثورة التي انطلقت بِحماسة وإخلاص لِمواجهة البريطانيين، انتهت وسيلةً لتسوية الخلافات الشخصية والعائلية بين الثوار انفسهم، او بينهم وبين القرويون الذين خلال كل فترة حرب التحرير اطعموهم ودعموهم بالمال بكل طيب خاطر.
النضال من اجل البقاء
بالاستناد الى المقابلة مع ام وحيد البيتم:
يا ابن امي وابي، لقد شردتنا
ملايين وذهب كلّفَتنا
غادرنا في عتمة الليالي دون ان ننظر خلفنا
تركنا ابوابنا مفتوحة قليلاً

يا قاسم، ابو وحيد، فاطمة! اركضوا، اركضوا! وصلوا “الهاغناه” من الوادي” صرخ شالومه. رميت منجلي وهربت من اليهود مع الباقين تاركة حصاد اليوم. حصل ذلك في “العارضة” في ايار 1948، حين كنا نحصد القمح. شالومه وغزل وماليخا ومناخل، جيراننا اليهود الوطنيّين لطالما حذرونا من هجمات “الهاغاناه”. عند تحذيراتهم، كنا نركض بعيداً تاركين الحصاد خلفنا دون ان نضيع الوقت .كنا نركض نحو الاراضي المفتوحة ولا نتوقف إلّا حين نجد انفسنا في “الشيخ داوود”. والجدير ذكره، ان جيراننا اليهود كانوا دائماً يحصدون زرعنا ويحفظونه لنا في الاوقات الحرجة كهذه. وان لم يستطيعوا ذلك، كانوا يغطونه على الأقل لحين عودتنا.
نشأت علاقة وطيدة بين عائلتي وشالومه الذي كان يشبه اخي قاسم كثيراً. هذا الشبه الكبير لم يسهم في فقط في نشأة الروابط الاخوية التي وحدتهما،وجعلتهما يتصرفان كأخوة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
صرخ شالومه مرة: “قاسم! ابو وحيد! اركضوا! ارحلوا! وصلت “الهاغاناه”!”. لكن قاسم تعثر ووقع ارضاً. تابعنا الركض دون ان ننتبه له. فجأة سمعنا طلقاً نارياً، كانت تلك الطلقة هي التي قتلت قاسم. ثم سمعنا شالومه ينتحب: “اين تذهب يا قاسم؟ لماذا تركتني؟”. عدنا لنجد شالومه يبكي كالطفل فوق جثة قاسم.
بعد ان دفنّا قاسم، جاء شالومه وغزال وماليخا ومناخل لتقديم العزاء. وقبل ان يرحلوا، شدّ شالومه على يد والدي وقال: “ارجوك لا تغادر “الشيخ داوود”. هؤلاء المهاجرون يسحقوننا. ابقوا لنعيش سوياً، انتم ونحن. لا تتركوننا، ولا تخافوا، نحن اصدقاء وجيران”. كانت المرة الاخيرة التي رأيت فيها شالومه. لمدة اسبوع بعد موت اخي، بدأت العصابات اليهودية بتفجير القرى المحيطة. من على سطح منزلنا، رأيت البيوت تنهار واحداً تلو الاخر.
“فجروا بيت أحمد البيك”.
“كان هذا بيت ابو حسين فهد”.
“المسكين قاسم حمود، كل بيته تدمّر “.
نسف القرى المجاورة اثار الخوف والرعب في “الشيخ داوود”، فقام السكان بعقد العديد من الاجتماعات في منازل الوجهاء وقرروا الرحيل.
خلال اجتماع عائلة “البيتم” في منزل المختار ابو اسعد احمد البيتم، اختلف المختار مع غالبية العائلة. الغالبية لم تكُن ترغب في مغادرة “الشيخ داوود”، لكن المختار اصرّ على رحيلهم وصرخ فيهم: “هل تريدون البقاء ليتمهونني بالخيانة والعمالة مع اليهود؟ ما حدث معنا خلال الثورة كافي! سنرحل غداً ونعود قريباً ان شاء الله”.
تلك الليلة، اخبرنا والدي رسمياً ان علينا ان نغادر الى “بركة”، وهي قرية درزية لمدة لا تزيد عن الاسبوع، ونعود بعدها. “سنغادر في الصباح الباكر، حضروا اغراضاً لاسبوع” قال ابي.
في منتصف الطريق الى “بركة”، و دون ان أَلفت نظر أحد لرحيلي ، عدت وحيدة الى “الشيخ داوود”.
في تلك الليلة، كان القمر مكتملاً والسماء صافية. امضيت الجزء الاول من الليل اراقب النجوم، والجزء الثاني اعد القذائف التي سقطت على القرية. تلك الليلة ولدت ابنتي “بدر”.
وعندما اصبح الالم غير محمولاً، صرخت طويلًا دون توقّف ولم أعُد أعرف إن كنت اصرخ من الخوف او من الالم. خلال دقائق قليلة، انجبت طفلتي. ربما كانت الولادة اسهل بسبب الخوف او دوِيّ القذائف، لست متأكدة. بعد ولادة الطفلة، نظرت اليها وادركت انها بنت. ضمَمتها الى صدري ونظرت الى السماء لاحمد الله على سلامتها وسلامتي. عندما رأيت البدر، قلت لنفسي، سأسميها “بدر”. حضنتها وبدأت اغني لها حتى نامت، وحالاً نمت بِجوارها من الارهاق. في الصباح، عاد والديّ لِيجداني مع الرضيعة.
كانت قد مضت ايام قليلة على إقامتنا في “الشيخ داوود” قبل وصول فرقة من جيش الانقاذ العربي التي طلبت من المختار ان يبلغ السكان “بضرورة مغادرة “الشيخ داوود” لاربعة ايام او اسبوع حتى يصبح الوضع آمناً للعودة”.
صدقناهم. امي وجدتي دفنتا بذور القمح للسنة القادمة، وغطت امي كلّ المونة المخزّنة. صعدت الى العلية لاطعم طفلتي وانتظرت امي لتتبعني. وعندما تأخرت، نزلت لاجدها تحفر حفرة في التراب.
“ماذا تفعلين؟” سألتها.
“اريد ان ادفن هذه الصرة في التراب”، اجابتني.
“ماذا تحتوي؟”
“انها مجوهراتي. لن اخذها معي. قد يهاجمنا اللصوص في طريقنا ويأخذونها. سأتركها هنا حتى نعود”.
ساعدتها في الحفر، ووضعنا الصرة ثم طمرناها في التراب. ثم بدأت أمي بإحتساب المسافة الفاصلة بين الحفرة والحائط لتعلم مكانها حين نعود. “خمس خطوات الى الامام، يجب ان تتذكري ذلك”، قالت لي: “خمس خطوات، لا تنسِ”.
غادرنا “الشيخ داوود” في اليوم التالي بملابسنا التي كنا نرتديها، والقليل من الطعام والمال. في البداية، توقفنا في “البروة” التي استطاع سكانها صدّ ثلاث هجمات لليهود. لكن بعد بضعة ايام من وصولنا، بدأت القذائف تتساقط على القرية، وسلاح المقاتلين لم يعد كافياً للمقاومة، فسقطت “البروة”. ورحلنا مع سكان القرية الى “مجد الكروم”.
في “مجد الكروم” استأجرنا منزلاً وبقينا فيه شهراً في حين تعرضت القرية للهجوم عدة مرات. في الهجوم الاخير، تمكن اهالي “مجد الكروم” من مواجهة اعتداء اليهود وقتل عدد منهم. في منتصف المعركة، سمعنا “ابو محمد داوود”، الرجل الذي اجرّنا المنزل، يصرخ: “الرجال يربحون، اعطوهم الماء”.
بسرعة، حملت اختي وامي قوارير الماء وركضن الى الجبهة.
عندما وصلن، غنت اختي:
يا قائد اضغط زنادك ودمر عدوك``
اغنيتها حفّزت الرجال وشجعتهم على الدفاع عن الارض.
اوصلن المياه الى المقاتلين الشجعان الذين استطاعوا صد هجوم اليهود. بعد الهجوم، اعلن جيش الانقاذ العربي انه تم التوصل الى وقف لاطلاق النار مع اليهود، ويجب على الجميع التقيّد به. شكروا اهالي “مجد الكروم” على استبسالهم في القتال خلال المعركة، سائلين الله ان يعطيهم القوة. خلال وقف اطلاق النار، سقطت “مجد الكروم” وبدأ رحيلنا الى لبنان، وليس بإتجاه قرى اخرى في فلسطين.
غادرنا “مجد الكروم” الى “كسرة” ثم “البقاعية”، “ابي سينا”، “دير القادسي”، الى ان وصلنا الى “رميش” في جنوب لبنان. كانت رحلة من العذاب والمعاناة. حين وصلنا الى “رميش” عند الثالثة فجراً، كنا مرهقين واردنا البقاء في المزارع حتى شروق الشمس. أخيرَا ! وجدنا جنود جيش الانقاذ العربي نائمين هناك. نسيت تعبي، وركضت بإتجاه أحدهم، وبدأت برفسه والصراخ: “قلتم انكم ستحمون البلد وتدافعون عنها! قلتم اننا سنغادر اربعة ايام ثم نعود الى منازلنا”. نظر اليّ وقال: “ماذا يمكننا ان نفعل؟ لم تصلنا الاوامر”.
ركضت الى “ابو اسعد” المختار، وقلت: “تستحق ذلك! تعال واستمع الى الخيانة بأذنيك. العرب باعونا مقابل المال ورمونا كالحيوانات. قلت اننا اذا بقينا سيتهموننا بالخيانة. كم تستحقها. جيش الانقاذ العربي اوصلنا الى هذه الحدود. اهذا الجيش الذي كان من المفترض ان يطرد اليهود ويعيدنا الى قرانا؟ ماذا فعلت؟ ماذا فعلنا؟”.
بقينا في “رميش” اربعة ايام قبل ان نغادرها الى “جويا”، حيث استأجرنا منزلاً. اخلا اهالي جنوب لبنان بيوتهم لتأجيرها للفلسطينيين. استأجرنا منزلاً مقابل ثلاث ليرات فلسطينية وبقينا في “جويا” ما يقارب السنة. خلالها استطعنا أن نعرف من كان يدعمنا ومن كان يعتبرنا خونة. في احد الايام، كنت عند البئر اسحب ماء الشرب، جاءت امرأة وقالت: “ماذا تفعلين؟ نجّستي بئرنا”. اجبتها بأني اطهر منها، وكدت ارميها في البئر. في نفس الليلة، علم زعيم القرية بما حدث. وعندما، قال: “انا اعتذر. كلنا متساوين امام الله، واعتذر بالنيابة عنها. اطلب منك السماح”.
ومن “جويا” انتقلنا الى “المريجة” و “برج البراجنة”.
النضال للحفاظ على هويتنا
بالاستناد الى المقابلة مع “ام وحيد”
``من اخبرك ذلك؟ لماذا تسألينني؟``
في الباص الذي أقلّنا كان هناك ناس من عائلة “اليتيم” من “وادي اليتيم”. كانوا قد زارونا قبل يومين، واخبرنا “الشيخ احمد اليتيم” اننا اولاد عم مقربون، ولا يمكن ان يفرقنا احد. واضاف انه ما زال لدينا أيّ عائلتي ارض وكرم زيتون مسجلة بإسم جدنا الذي رحل الى فلسطين. طلب مني ان اطلب من عائلة “اليتيم”، عائلتي، العودة الى القرية والمطالبة بالجنسية اللبنانية والاستقرار هناك.
“ماذا أجَبته؟”
“قلت له انه يجب ان اسأل والديّ في بيروت وان ابلغ المختار. ما رأيكما؟ الامر يعود الى “ابو اسعد” ليقرر، لكني لا اعتقد ان احداً منا سيؤيد الفكرة، لاننا جميعاً نريد العودة الى فلسطين”.
“فليحتفظوا بأرضهم وكرومهم لانفسهم!” هذا اول ما قاله المختار “ابو اسعد” بعد ان استمع الى كلمات اختي. “لا نحتاج الى اراضٍ في هذا البلد. واذا اردنا اراضِ، لدينا ما يكفي من المال لنشتري قرية كاملة ونستقر فيها. لا نريد ان نبقى هنا، نريد العودة الى ارضنا وكرومنا في “الشيخ داوود” حيث كنا وكبرنا. وُلدنا هناك وسنموت هناك، ولو كنا من اصول لبنانية”.
تلك الليلة، تذكرت ما كان يقوله كبار السن في قريتنا عن اصولنا اللبنانية. تعود القصة عندما هرب جدي وشقيقه من لبنان الى فلسطين، بعد ان قتلا رجلاً اراد الزواج من ابنة احد الشقيقين. عندما اقتربا من “الشيخ داوود” قرر احدهم الاستقرار هناك، بينما تابع الاخر الى “الكويكات” حيث كان له اقارب. في “الشيخ داوود”، تزوجت تلك الفتاة من “احمد بيك عبد العال” أحد وجهاء القرية. كنا كلما نمر من جانب المنزل، ننظر اليه ونقول: “اه كانت جدتي تعيش هنا”. هذه قصة جدي الاكبر.
في “المريجة” كنا ننتظر العودة الى وطننا، نستمع الى الاخبار من اذاعة الى اخرى بعد أن تمّ ارسال وفود عربية الى الامم المتحدة. ملك يشجب واخر يشجب.. مع مرور الوقت، بدأ ينقص المال الذي معنا. وذات يوم حدث اكثر ما كنت اخشاه، اضطررت الى بيع كرداني الذهبي، هدية امي في عرسي. بالاضافة الى قيمته المعنوية، كان الكردان جميلاً ومصنوعاً بإتقان. “لا يهم. سنعود، وسأشتري لك واحداً اجمل من عكا”، قال “ابو احمد”.
“هل انتم من عكا؟”، سألني “محمد الغندور” عندما كنت ابيعه الكردان.
“انا من الشيخ داوود، كيف عرفت؟” سألته.
“اشتريت هذا الكردان من محلنا في عكا، من مجوهرات غندور”. اجابني البائع. ثم قال “من المؤسف بيعه لانك لن تستطيعي شراء شيئاً مثله”.
“احتاج الى بيعه. وغداً عندما نعود، سأشتري واحداً مثله من محلكم في عكا، ان شاء الله”، اجبته.
قبل مغادرة المحل قال لي “محمد” ان هناك مخيم للاجئين من قرى “عكا” في “برج البراجنة”. وأضاف انه يمكننا الاستقرار هناك بدلاً من استئجار منازل. وقال انه لا بأس من المعاناة قليلاً، وبعون الله عودتنا قريبة.
كانت ارض “البرج” رملية وجافة. عندما تدوس عليها تشعر بالحرارة الصاعدة منها. يصدمك ذلك. تنتشر هنا وهناك، خيم صغيرة تسمى “خيم الاجراس” واخرى كبيرة خُصِّصة لنا ولعائلات اخرى. وجوه متعبة وطوابير طويلة تملأ المكان. طوابير من المنتظرين حصصهم بفارغ الصبر عند مكاتب الانروا في المخيم.؛ وطوابير طويلة أخرى عند خزانات الماء. واي شخص راغب في دخول الحمام كان عليه أيضًا الانتظار في صف طويل. لم اكن اتصور ابداً ان ينتهي بنا الامر هنا، لكن لم يكن لدينا مكان اخر نذهب اليه. خُصصت لنا خيمة كبيرة مع الجميع من عائلة “اليتيم”. نظمنا خيمتنا في زقلق يشبه حي “الشيخ داوود” في المخيم. وكان هناك احياء “الكويكات” و”الكابري” و”بلد الشيخ” و”جدين” و”ترشيحا”. زعماؤنا لم يتغيروا في المخيم. مختارنا اصبح ضابط اتصال بيننا وبين الانروا، متى احتجنا اي شيء.
كنت امضي نهاري في “برج البراجنة” في طابور للحصول على الاعاشة. كانت في البداية توزع بشكل يومي قرب خزان المياه. ثم اقف في الصف لادخل الحمام. كنت المسؤولة عن حياتنا اليومية بعد ان بدأ “ابو وحيد” بالعمل كمدرب للاحصنة عند “محمد فستق”. وباليومية التي كان يحصل عليها، وهي ليرة لبنانية واحدة، كنا نحاول شراء ما نستطيع من طعام.
“يا الله! اللبنانيون بخلاء جداً! تخيل انهم يقلون بالزيت ثم يبيعونه”، قلت يوماً لـ “ابو وحيد” عندما عدت من محل البقالة. ضحك وقال: “انه زيت نباتي”. سألته: “ماذا يعني ذلك؟”. قال: “انه زيت مستخرج من الذرة او النباتات وليس الزيتون”. وقبل ان اسأله المزيد قال: “يبدو انك ستتعلمين الكثير هنا”. طبعاً كنت سأتعلم الكثير من الاشياء. مثلاً، للحصول على الخبز الابيض، قيل لي ما لم اكن اتخيله، انه يمكن استخدام القمح مطحونًا. في “الشيخ داوود” كنا نطحن القمح مع قشره، وكنا نخبز الخبز بلون اجمل والذ.
مع الشتاء بدأت سلسة من الكوارث. بدأت الخيم بالطيران مع كل هبة هواء، تتطاير في كل مكان، تُصيبنا في عيوننا وتُطيح بطعامنا. وعندما تمطر بقوة كان يغرق الجزء السفلي من المخيم، ما يدفع الناس الى اللجوء الى الجزء العلوي من المخيم، ويشاركون خيمهم مع العائلات الاخرى. ولمنع الخيم من الطيران بعيداً عند اشتداد الرياح، بدأنا بتجميع جذوع الاشجار وتثبيت الخيم بها. وكانت هذه مهام النساء بما ان الرجال كانوا قد بدأوا بالعمل يومياً خارج المخيم. ومع ازدياد اعداد اللاجئين في المخيم، بنت الانروا خزاناً جديداً للماء ومرحاضين اضافيين، واحداً للرجال واخر للنساء.
كان الطقس حاراً جداً في الصيف وبارداً جداً في الشتاء، لكننا صمدنا في المخيم حتى العام 1956 حين سمحت الانروا للفلسطينيين ببناء جدران الاسمنت. في البداية كانت هناك اضرابات ومسيرات في كل المخيمات. عارض الفلسطينيون الجدران الاسمنتية لان ذلك كان يعني توطين دائم في لبنان، وهو امر رفضناه. “لا اسمنت ولا توطين، بدنا العودة لفلسطين”، كنا نصرخ خلال المظاهرات. لكن مطر بيروت الشديد اجبرنا على القبول بالجدران الاسمنتية والتي كانت مغطاة فقط بالخيم ، وبعدها بألواح “الزينكو”. من اراد وضع الواح “الزينكو” كان عليه الطلب من المسؤول عن الحي، والذي كان بالعادة تابعاً ل”الحاج أمين”، او رجلاً مسناً. وبعدها يقدم الطلب الى الانروا. وغالباً ما كنا نشتري الالواح على نفقتنا الخاصة لان ما كانت تقدمه اللجنة كان غير كافِ.
كانت الانروا ترسل موظفاً للاشراف على بناء الجدران ضمن المساحة المخصصة لكل عائلة. بناء تلك الجدران في المخيم جعل الجميع يدرك ان عودة الفلسطينيين الى فلسطين لم تكن وشيكة كما كان متوقعاً. هذا ما دفع بِاقاربنا من عائلة “البيتم” الى التواصل معنا من خلال مختارنا “ابو اسعد” ليطلبوا منا العودة الى قريتنا، والمطالبة بأرضنا والجنسية. ولكن كما شرحنا له: “نحن قبلنا بالبيوت الاسمنتية لنجعل حياتنا أقلّ قساوة وأكثر احتمالًا ، لكن هذا لا يلغي اصرارنا على العودة الى منازلنا في فلسطين”. هذا ما ابلغه “ابو اسعد” لاقربائنا”.
مع مرور الايام، كبر جيل جديد في المخيم. تربية هذا الجيل كان اكبر هم للنساء: “كيف نربيهم في المخيم حيث تتشارك العائلات الحمامات وحتى الخيم؟”. والاهم: “كيف نربيهم ليكونوا فلسطينيين حقيقيين؟”. كل واحد منا حاول تعليم الاطفال ما كان يعرفه. “ام زكي” مثلاً، كانت بارعة في سرد القصص. فكانت تجمع اطفال الحي لتخبرهم القصص الفلسطينية. انا كنت بارعة في غناء “العتابا”، ولذلك بدأت بتعليم النساء والاطفال اغاني عن فلسطين. بدل ان نغني لاطفالنا العِدّيات كنا نغني: “يا فلسطين يا حلوة.. الله يحميكي” او “حيفا يا حيفا، كم عذبة ماؤك.. لان سيدنا الخضر بعدو معاكي”.
كنا نغني لكل قرية وبلدة نعرفها. ايضاً غنينا عن رحيلنا، كنا نريد ان نغذي اطفالنا بحبنا لفلسطين. ارضعناهم حليب صدورنا الذي كان مليئًا بحبّنا لفلسطين.
عندما اصبح عمر “بدر” 12 عاماً علمتها التطريز، ليس فقط لانني اردت تربيتها كما تربيت انا، بل ايضاً لاننا كنا نحتاج الى المال. كانت صغيرتي تقوم بالتطريز وانا ابيع اعمالها الى “الحاج ابو علي البرجاوي” في سوق “البرج”. اقترح الحاج ان اشتري لها “طارة التطريز” على ان تعلمها زوجة ابنه على استخدامها. اشترينا الماكنة ل”بدر” بالتقسيط التي لم تتعلم عليها فقط بل ايضاً علمت ابناء الحي على استخدامها. كنت اقص القماش واحضره. بدأ “ابو علي” بإحضار القماش والخيطان لنا، ويجمع ما نصنعه ويدفع لنا مقابل عملنا.
حاولنا بجهد الحفاظ على هويتنا. لكن هذا لم يمنع ابني “وحيد” من رمي حبة تين عليّ غضباً كان “ابو احمد” قد احضرها من فلسطين واعطاها لابني على مدخل المخيم. هاجمني ابني قائلًا: “كيف قبلت ترك نعم الله هذه وأتَيت الى هنا؟ اريد ان افهم ما الذي حصل؟”. اخبرت “وحيد” اننا لم نترك ارضنا لاننا اردنا ذلك. ربما كنا مخطئين عندما استمعنا الى العرب، والى زعمائنا بدل من الاعتماد على انفسنا. لكننا لم نتخلَ عن فلسطين بارادتنا ولن نفعل ذلك ابداً.
أم وحيد البيتم
ولدت عام 1929 في بلدة “الشيخ داوود” قضاء “عكا” في فلسطين. عملت في الارض من عمر الخامسة. هذا القرب من الارض طّور علاقة روحانية قوية بينها وبين ارض فلسطين التي استمرت باستِذكارها و لتواصل معها. تزوجت من ابن عمها في عمر 17 عاماً. انجبت طفلتها الاولى “بدر” في فلسطين، قبل شهر من رحيلهم الى لبنان. بعدها إلتجأوا في مخيم “برج البراجنة” حيث تعيش الان.
انجبت سبعة اطفال: ثلاث بنات واربعة صبيان. عملت مع ابنتها في التطريز.وتهجّرت من منزلها ثلاث مرات، مرة خلال الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، وأخرى خلال حرب المخيمات عام 1987، وثالثة عام 1989. قابلناها في محلها الصغير في “البرج” في صيف 1999.
اعداد: ميسون سكرية
ترجمة: سحر البشير
تحرير: مي حمادة
أشراف: د. روز ماري صايغ